وسط زخم كبير من عروض الأفلام المصرية التي تمثل تجربة أولى لمخرجيها مع الفيلم الروائي الطويل، وعند الوقوف أمام التجربة الروائية الطويلة الأولى للمخرج كريم شعبان بعد إخراج عدد من الأفلام القصيرة خلال مسيرة بدأت منذ نحو 17 عامًا، نرى أن أفلامه قد ارتكزت على ترقب المواطن البسيط المهمش وفتح التساؤلات أمام حياته بالاشتباك مع الوضع العام، أو المواطن الغارق في همومه الصغيرة، بدءًا من فيلم «إيه العبارة؟» الذي تلا مرحلة قيام ثورة يناير وتساؤلات سائق التاكسي البسيط وصولًا إلى «شيفت مسائي» الذي أتيح للمشاهدة في مرحلة وباء كورونا 2020 ويفتح أبواب التساؤل كذلك أمام موظف خدمة العملاء عن مسار حياته ومهنته التي يعيشها بشكل روتيني دون أن يتأملها.
في فيلم «6 أيام» يتجه كريم شعبان نحو تيمة وموضوع مختلف كليًا وإن تشابه في فتح باب التساؤل أمام شخصيات تعيش واقعها، ولكنها في رحلة الـ6 أيام تعود لتراجع خطواتها وماضيها وتخطط لحاضرها بشكل ديناميكي.
يأتي فيلم «6 أيام» بقصة ليست بجديدة على الإطلاق محورها قصة حب تبدأ في المراهقة بين زميلين تجمعهما جيرة ثم ينفصلان بفعل رحيل أحدهما من مسقط رأسه لتتفرق بهم السبل، ثم يلتقيان مرة أخرى لنرى كيف تغيرت حياتهما وهل سيظل للحب تأثير على حياتهما الجديدة؟ وهو العنوان الذي تلا اسم الفيلم «عملت إيه فينا السنين؟»
يعتمد الفيلم في سرد أحداثه على هيكل زمني حيث يستعرض 18 عامًا من حياة أبطاله خلال 6 لقاءات في يوم محدد من العام، بمعدل كل عامين أو ثلاثة، تُظهر خلال اللقاءات رحلة البطلين ومراحل تطورها، مع طرح تساؤلات حول تطور شكل علاقتهم وما هي المشاعر بينهما وإمكانية تأثيرها على مساراتهم منذ بداية علاقتهما في الصبا وحتى بلغا الثلاثين.
يعد هذا الهيكل العام الذي يستخدم فيه الزمن إضافة إلى حضوره في كافة تفاصيل الشريط السينمائي بكل عناصره في الصوت والصورة أحد أهم نقاط قوة الفيلم، إذ يجعل هذا من الزمن ليس مجرد خلفية للأحداث بل تشعر أنه عنصر أساسي من عناصر الحكاية لا ينفصل عن كل تطور وكل مرحلة تشهدها الشخصيات.
خلال رحلة الزمن نتابع تصاعد الشخصيات ويبدأ فيها التأسيس منذ مرحلة المراهقة، يوسف رحمي، وعالية برهان، تظهر عالية منذ مراحلها الأولى فتاة رومانسية ولكن حازمة في قراراتها، فهي العقل المدبر سواء في تخطيط مقابلاتهما أو في كيفية الخروج من مأزق عند تعرضهما لمضايقات، فيما يبدو يوسف الأكثر عاطفية وارتباطًا بقصة الحب ونمو المشاعر بينهما بدون حسابات أخرى كذلك فهو شخص شديد المسالمة يفضل تجنب المواجهات.
يبدأ الفيلم مع اللقاء الأول بينهما مرة أخرى عند مرحلة الشباب، في الكشف بسلاسة عن خلفيات الشخصيتين، حيث يبدأ اللقاء بتقديم وضع اجتماعي ظاهري غير متكافئ بين البطلين لم نكن نشعر به من البداية، ثم من هذه اللحظة تتطور الأحداث ليس فقط للكشف -من خلال هذا التناقض- عن ماضي الشخصيات وإنما أيضًا لإعطاء فهم أعمق حول نمط شخصياتهم بالتصاعد التدريجي من حيث مناطق القوة والضعف لديهما، فيبدأ اليوم الثاني من الحكاية الذي يقدم الشخصيتين بعد بلوغهما مرحلة الشباب وعالية نادلة بأحد المطاعم بينما يوسف طبيب أسنان.
وبدءا من تلك الصورة التي تحمل التفاوت والاختلاف غير المفهوم ينكشف ماضي الشخصيات وارتباطها باختياراتها ووضعها الحالي في أولى خطواتها نحو النضوج، ففي نهاية المرحلة الجامعية وقد خضعا لما تفرضه ظروف نشأتهما سواء بدخول يوسف لكلية طب الأسنان على غير رغبته، وعالية التى حاولت التأقلم مع ظروفها القهرية في انسحاب الأب والعمل بمهنة متواضعة رغم شهادتها وارتبطت بخطبة مع ابن خالها الذي تولى رعاية أسرتها بدلًا من الأب.
كذلك يحافظ السيناريو على مراحل تصاعد الحدث لتسير بالتوازي بين الطرفين ولكنها بدلًا من أن تقربهم أظهرت التباعد في كل لقاء تلو الآخر، فمع بدء اللقاء الثالث نجد أن الشخصيات قد بدأت مرحلة التمرد والعدول عن مسارات حياتهم التي رُسمت على غير رغبتهم.
ومع هذا يظل بينهما عدم التكافؤ في كل مرحلة من تلك الرحلة وإن تشابهت دوافعهم، ولكنها تظل نقطة فاصلة بينهما تمنع تطور علاقتهما، فمع كل لقاء بينهما نجد أن هناك فجوة تمنع دائمًا تطور علاقتهما إلى ارتباط بشكل يجعل ذهن المتلقي في تساؤل دائم حول سبب حضور تلك الفجوة في كل لقاء برغم سعي الطرفين نحو اكتمال العلاقة.
هذا التساؤل يصبح أكثر إلحاحًا مع لقاء اليوم الرابع عندما يصبح يوسف أكثر استقرارًا واستعدادًا للتقدم بخطوات جدية نحو العلاقة لكنه يجد أن عالية قد تزوجت منذ عام، ففي هذا اليوم يصبح عدم اكتمال احتياجها من هذه العلاقة أكثر انكشافًا أو ربما عجزا عن استيعاب وتفهم ما يمر به الآخر، فعالية تبحث عن الحب والقبول والأمان الذي افتقدته بجرح قديم في علاقتها بالأب.
نظرت عالية في البداية إلى هذه العلاقة كمنفذ نجاة متكامل، حب قديم صادق المشاعر ووضع اجتماعي جيد مع طبيب أسنان نشأ في عائلة مستقرة حريصة على أبنائها – من وجهة نظرها– بينما يوسف لديه أزمة بحث عن ذاته وصراع في الهروب من سيطرة أبوية تعيقه مرة تلو الأخرى عن التقدم بخطوات جدية نحو العلاقة التي يريدها.
مع اللقاء الخامس وقبل الأخير والذي جاء على غير الموعد المعتاد لهما وقد لامست الشخصيات شيء من النضج بالتزامن مع موت الأب في الحالتين، وإعادة التفكير في شكل العلاقة بعدما انقضى الصراع وسقطت آثار السلطة الأبوية وبقى التساؤل حقيقة مشاعر، فقد مالت تلك المرحلة إلى استخدام البوح الصريح من الشخصيات لبعضها على عكس المراحل السابقة.
إلى جانب هذا البناء لتدفق السيناريو فإن إخراج الفيلم يرتكز على عدة تفاصيل في سرد الحدث أبرزها جاء في اختيار الأماكن واختيار الأغاني على طول شريط الصوت لإثراء حالة التوثيق لحكاية البطلين والاشتباك مع زمنها.
فقد قدم المخرج احتفاء كبير بعنصر المكان بشكل لافت سواء من حيث الاعتماد الكلي على التصوير الخارجي في شوارع القاهرة بين الشوارع المتسعة أو الأرصفة الضيقة وسلالم المشاه والكافيهات والمطاعم بمستوياتها الشعبية والمتوسطة والفارهة، وكأنه يريد ليس فقط التنوع والتجول بالشخصيات بحسب تنقلاتها الاجتماعية واختلافاتها الزمنية بل بتوثيق معالم القاهرة كجزء من حكاية ترتبط بزمن وهوية كذلك من خلال اختيار الأحياء بعينها، حي المنيل مكان نشأتهم وهو حي ينتمي للقاهرة القديمة وأقرب لوسط المدينة والنيل، ثم التجمع -مكان انتقال يوسف إلى عمله وحياته الجديدة- الذي ينتمي لعالم القاهرة الجديدة.
فيفتتح لقاء البطلين الأول في سينما جلاكسي بالمنيل ثم يعيدهم للالتقاء في النهاية في نفس المكان في قاعات السينما، واستخدام الإشارة للفيلم المعروض حديثًا «الهوى سلطان» الذي يتناول نفس ثيمة الفيلم والتي يعيشها البطلان، ولكن يظهر ثمة غرابة مع اختيار نهاية الفيلم في جمع البطلين مرة أخرى، بينما ما زالت أزمة الشخصيات في الارتباط ببعضها قائمة.
برغم الأسباب المختلفة التي حالت دون ارتباط البطلين، فإنهما لم يكونا على استعداد حقيقي للارتباط سوى بقصة الحب القديمة المبنية على المشاعر التي تجمعهما، ويستمدّان منها الأمان دون النظر لاعتبارات ما سيستطيع كلٌّ منهما تقديمه لشريكه في علاقة أكثر جدّيّة. ولكن ربما تحمل النهاية فقط فكرة تجمعهما في السينما كدلالة فقط على تشبّثهما بشكل العلاقة القديمة، مع ترك النهاية كتساؤل مفتوح: هل سيستمران في المحاولة للارتباط؟ وهل ستبوء المحاولات الجديدة بالفشل أيضًا أم لا؟